متى يكون الأمر في باب الأدب للاستحباب والنهي فيه للكراهة

متى يكون الأمر في باب الأدب للاستحباب والنهي فيه للكراهة
لا يوجد فقيه من فقهاء الأمة الحقيقيين إلا وقد وقع في أحكامه صَرْفُ أمر عن الوجوب إلى الاستحباب ؛ لأنه من باب الأدب أو الإرشاد ، ولا يوجد فقيه إلا وقد صرف نهيا إلى الكراهة ؛ للسبب نفسه .
ولذلك لما ذكر الإمام أبو العباس القرطبي أحاديث صحيح مسلم المتعلقة بآداب الانتعال: كالأمر بالاستكثار من النعال ، وببدء الانتعال باليمنى وبدء خلعه باليسرى ، والنهي عن المشي في نعل واحدة ، ثم قال : «ولا خلاف : في أن أوامر هذا الباب ونواهيه : إنما هي من الآداب المكمِّلة ، وليس شيءٌ منها على الوجوب ولا الحظر عند معتبرٍ بقوله من العلماء» . المفهم (5/ 416) .
هكذا قال : « وليس شيءٌ منها على الوجوب ولا الحظر عند معتبرٍ بقوله من العلماء» !!
فلا تظن المسألة في أصلها خلافية ؛ إنما الاختلاف في التطبيقات .
ومع ذلك ربما وجدت الفقيه في مواطن أخرى يحمل الأمر على الوجوب والنهي على التحريم ، وهو في باب من أبواب الأدب والإرشاد أيضا !
فما السبب ؟!
وهل هذا تناقض منهم ؟!
الصواب : أن الفقيه حقا لا تتناقض عليه أصول الاستنباط ، وإن كان ليس منزها عن الغفلة والنسيان البشريين . وإنما يختلف موقف الفقيه الواحد في تفاريع أحكامه غالبا بناء على قاعدة صحيحة ، قد لا يتنبه لها بعض الأتباع وأعشار الفقهاء وحفاظ الفقه وأصوله بغير فقه !
ففي قاعدة الأمر والنهي في باب الأدب والإرشاد إنما يختلف موقف الفقيه الحقيقي بناء على ما يلي :
لما كانت الآداب منها ما ينتج عن الإخلال بها ضرر ، أو مشقة ، ومنها ما لا ينتج عنه إلا نقص في الكمال : كان من الآداب ما هو واجب ، وخلافه قد يكون معصية كبيرة (كالعقوق وقطيعة الرحم) ، ومنها ما هو تحصيل حاجة يترتب على الإخلال بها مشقة ، فإن كانت مشقة عامة على الناس ، حرم الإخلال بذلك الأدب (كالامتناع عن أداء الشهادة أو تأخيرها) ، وإن كانت مشقة تخص المخل بها ، وهو يحتملها ولا تؤدي إلى فساد ما : كانت مكروهة (كالسماح بالدخول عليه بغير استئذان) . وربما كان الإخلال بالأدب لا يؤدي إلى ضرر ولا إلى مشقة ، فيكون الإخلال به مكروها (كالشرب قائما والمشي في نعل واحدة) أو خلافا للأولى ، ويكون الحفاظ عليه مستحبا (كالأكل باليمين).
وهذا يعني أن الآداب تختلف مراتبُ أحكامها بحسب مراتب مصالح التزامها ومراتب مفاسد الإخلال بها أو مراتب النقص المترتب على الإخلال .
فطريقة تمييز الفقيه تقوم على النظر في الأمر أو النهي في باب الآداب : هل يترتب عليه ضرر كبير أو مفسدة ؟ أم لا يترتب عليه إلا نقص في الكماليات والتحسينيات ؟
فهو نظر مقاصدي بامتياز ، يفسر من خلاله مراد النص بالأمر والنهي في باب الآداب والإرشاد : هل هو للوجوب في الأمر ، وللتحريم في النهي ؟ أو هو الاستحاب في الأمر ، والكراهة في النهي ؟
وقد يُعين النظرَ المقاصديَّ في تحديد مراد الشارع من الأمر والنهي : وُرودُ ما يدل على الإلزام في الأمر والنهي ، كالوعيد على المخالفة ، أو وصفها بالعصيان ، وترتيب الإثم عليها ، ونحو ذلك من الدلالات النصية ، أو أن يرد عكس ذلك في النص ، مما يدل على عدم الإلزام التي تبين المراد بالأمر والنهي في باب الآداب وغيره .
وقد نص ابن العربي على ما يقارب هذا التقرير ، حيث ذكر حديث النهي عن الأكل بالشمال ، ثم قال : «قوله: "نهى" والنكتة التي يعتمد عليها علماؤنا في الفرق بين المكروه والحرام :
- أنه إذا جاء النهي مقرونا بالوعيد : دل على تحريمه لا محالة .
- وإذا جاء مطلقا : كان أدبا ؛ إلا أن تقترن به قرينة تدل على أنه مصلحة في البدن أو في المال على الاختصاص بالمرء : فإنه يكون مكروها على حاله، ولا يترقى إلى التحريم. فإن كان لمصلحة تعم الناس : صار حراما . والدليل على ذلك: أن للمرء أن يتحمل الضرر في نفسه إن كان ذلك يسيرا، وليس له أن يلحقه بغيره يسيرا كان أو كثيرا، وهذا بديع» . المسالك لابن العربي (7/ 334) ، ونحوه في القبس (1110) .
والقول بكراهة الأكل بالشمال هو ترجيح ابن العربي رغم إيراده حديث : «فإن الشيطان يأكل بشماله» ؛ لأن مطلق مخالفة الشيطان ليست كافية للقول بالحرمة ، فقد تكون دالة على الكراهة ، ولذلك أمثلة عديدة .
وهو ما ذهب إليه أبو العباس القرطبي في شرحه لصحيح مسلم (5/ 295- 297) ، رغم أنه شرح حديث النهي معللا بمخالفة الشيطان ، بل رغم وقوفه على حديث سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) : «أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل بيمينك . قال: لا أستطيع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا استطعتَ . ما منعه إلا الكِبر . قال : فما رفعها إلى فيه» . ولذلك قال القرطبي في شرحه : «دعاء منه عليه ؛ لأنه لم يكن له في ترك الأكل باليمين عذر ، وإنما قصد المخالفة ، وكأنه كان منافقا . والله تعالى أعلم . ولذلك قال الراوي : وما منعه إلا الكبر . وقد أجاب الله تعالى دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الرجل ، حتى شُلّت يمينه ، فلم يرفعها لفيه بعد ذلك اليوم» .
يعني أن سبب دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) عليه لم يكن هو أكله بالشمال ، وإنما للكبر الذي دعاه لمخالفة سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، كما جاء صريحًا في الرواية . ولذلك لم يعتبر القرطبي في هذا الحديث دليلا على وجوب الأكل باليمين .
والاستحباب هو ما صرح به من المالكية : القاضي عبد الوهاب في المعونة (1709) ، وابن رشد من المالكية : في المقدمات (3/ 449) ، ووافقه عليه القرافي في الذخيرة (13/ 344) . خلافا لابن عبد البر ، الذي رجح الوجوب ، كما يظهر من كلامه .
وجزم الغزالي من الشافعية أن الأمر للاستحباب ، وذهب الرافعي أن الأكل بالشمال مكروه ، فقال في العزيز : «ويكره أن يأكل الإنسان متكئا، وأن يأكل مما يلي أكيله ، وأن يأكل من وسط القصعة .. (إلى أن قال) وأن يأكل بشماله، وأن يتنفس في الإناء» . وهو ما اختاره النووي في روضة الطالبين ، وصرح به النووي أيضًا في شرحه لحديث النهي عن الأكل بالشمال في شرحه لصحيح مسلم ، حيث قال : «فيه استحباب الأكل والشرب باليمين ، وكراهتهما بالشمال» .
وعلى أن الأمر للاستحباب جمهور الشافعية ، ومنهم ابن المنذر في الإقناع (2/639) ، رغم ما قيل من وجود نص للشافعي يشهد للقول بالتحريم ، وعن البويطي في مختصره ، والتحريم هو ما رجحه تقي الدين السبكي . لكن النص المشار إليه ليس عن الأكل باليمين ، وإنما عن الأكل مما يليه ، كما تجده في الرسالة (352- 354رقم949- 956) ، وللأكل مما يليه مأخذ للقول بالتحريم ، إذا كان يأكل مع غيره ، وليس هو لمجرد الأمر بالأكل مما يليه .
والقول بكراهة الأكل بالشمال (دون تحريم) هو المذهب حتى عند الحنابلة ، رغم إيرادهم أحاديث النهي ، وما يوهمه بعضها من التشديد ، كما سبق .
قال ابن قدامة في المغني : « وتستحب التسمية عند الأكل، وأن يأكل بيمينه مما يليه» ، وقال الفتوحي في منتهى الإرادات : « وتُسن التسمية جهرًا على أكل وشرب ، والحمد إذا فرغ، وأكلُه مما يليه بيمينه» .
وهكذا يتلخص : أن الأمر والنهي في باب الآداب لا يكون دالا على الإلزام بإيجاب أو بتحريم ؛ إلا إذا ترتب على مخالفة الأدب مضرة أو مفسدة ، لنعلم حينها أن ذلك الأدب واجبٌ ، وأن خلافه محرّم . ويعين على اعتبار الأدب واجبا أن يرد في النص ما يدل على الإلزام به ، كالوعيد على مخالفة الأدب .
فإن ورد وعيد على أدب ، ولم تظهر له مفسدة تقتضي الإيجاب : وجب على الفقيه تأويل النص على أن الوعيد خاص بمخالفة تترتب عليها مفسدة ، فإن وُفق حمل النص عليها ، وإلا تعامل مع النص تعامله مع الأوامر التعبدية ، التي يُلتزم بظاهرها ، دون القياس عليها ، مع استمراره في محاولة إيجاد علّة النهي ومفسدة الوعيد ، ومع إقراره بأن من وجد العلة ووقف على المفسدة فهو أولى منه في فقه النص .
وقد تأملت نصوص الآداب أمرا ونهيا ، مع فقه الفقهاء ، فوجدتها تنتظم على هذا القانون . وإن وجدتُ ما يخالفه من فقيه في مسألة جزئية ، وجدتُ فقيها آخر اطرد باعتباره فيها .
وما ذلك إلا لأنها تقوم على أصل عظيم : وهو الأصل الذي يقوم على تقصيد أحكام الدنيا ، وفق قانون بينته في كتابي (النظر المقاصدي وضوابطه) ، والذي أنتظر صدوره هذه الأيام بإذن الله .
7/ 3/ 1440هـ
تاريخ النشر : 1440/03/07 هـ
طباعة المقالة