شرح الحديث الموضوعي (مع التفسير الموضوعي) في ميزان المنهج العلمي لتكوين التصور الإسلامي
شرح الحديث الموضوعي
(مع التفسير الموضوعي)
في ميزان المنهج العلمي لتكوين التصور الإسلامي والفقه في الدين([1])
الشرح الموضوعي للحديث : وهو نوع مبتدَعٌ في العصر الحديث ، جاء في مقابل نوع تفسيري مبتدع أيضًا ، وهو التفسير الموضوعي .
وقد عُـرِّفَ (الشرحُ الموضوعي) بالتعريف التالي : «دراسة موضوع معيّن في ضوء الحديث الشريف ، للوصول إلى رؤية حديثية متكاملة تجاهه»([2]).
وقد اشتهر هذا النوع من الشرح في العصر الحديث ، وتبنته الجامعات في مناهجها، ولست أرى فيه ما يستحق هذه الإشادة ، بل أرى في التنظير له خطرًا على الإسلام وعلومه !
وكما هو الحال في (التفسير الموضوعي) : إن كان المقصود من هذا النوع من التفسير والشرح استلهامَ الهداية الربانية التي جاء بها الإسلام ، فهذا لا يصح مع دعاوى هذين النوعين المستحدثَين من أنواع الشرح والتفسير التي تزعم الاقتصار على الحديث في (الشرح الموضوعي)([3])وتزعم الاقتصار على القرآن الكريم في التفسير الموضوعي([4])؛ فإنه لن يكفي لاستلهام الهداية التشريعية أن يُقتصر على مصدر واحدٍ من مصادر التشريع : كـ(الحديث) في الشرح الموضوعي للحديث ، أو كـ(القرآن) في التفسير الموضوعي ؛ لأن الهداية الربانية التي أنزلها الله على نبيه (صلى الله عليه وسلم) لا تتبيّن بإهمال شيء من مصادر التشريع ، فلا يمكن أن تُهمل هداية القرآن الكريم والإجماع والقياس في الشرح الموضوعي للحديث ، كما لا يمكن إهمال الحديث النبوي والإجماع والقياس في التفسير الموضوعي ، إذا كنا نريد أن نعرف هداية الله تعالى لنا في شرعه الحنيف . وأي إخلالٍ في جمع عناصر الموضوع المدروس أو في التأسيس له من مصادر التشريع جميعها سيكون في فساد التصور أخًا للإخلال بالموضوع في فهم النصِّ الشرعي ، بل هو في جمع العناصر والتأسيس أشد خللًا .
والذي يجعل أصحاب هذه المناهج المبتدعة مضطرين إلى هذا التقرير الفاسد الذي يستبعد أحد أصلي التشريع (القرآن) أو (السنة) من عملية فهمهم للهداية الربانية : أنهم إن زعموا عدم التخلي عن شيء من مصادر التشريع الإسلامي في جمع عناصر موضوع معين واستجلاء هداية الله تعالى فيه ، فلن يكون في فكرتهم شيء جديد ، فالفقه الإسلامي والمعتقد الإسلامي وعلم السلوك الإسلامي وأيُّ تصورٍ إسلامي واجتهادٍ في تكوينه : يقوم على ذلك ، يقوم على استلهام هداية الله من مصادر التشريع جميعها في كل علم من تلك العلوم، وفي كل بابٍ منه ، وفي كل مسألةٍ خاصة من كل علم منه . وكل شرحٍ لحديثٍ دُوِّن ، وكل تفسيرٍ لآية وُجد : لا يقوم على ذلك النظر الشمولي لمصادر التشريع : فهو شرحٌ مرفوضٌ وتفسيرٌ مردود عند علماء المسلمين ، منذ بزوغ فجر الاجتهاد الإسلامي إلى اليوم . فالمعاصرون إن زعموا أنهم لن يُهملوا شيئًا من مصادر التشريع في تكوين تصورهم الاجتهادي عن موضوع معين : فلن يكون عندهم جديد ، ولا سيثبت لهم إبداعُ خدمةٍ مستحدثة لخدمة القرآن الكريم أو للحديث النبوي . لذلك اضطر أصحاب هذه المناهج المستحدثة أن يخترعوا أصولا لمناهجهم تختلف عن أصول علماء الإسلام ، فأدى بهم ذلك إلى هذا الخلل الكبير .
ولو أنهم زعموا عدم التخلي عن شيء من مصادر التشريع الإسلامي في جمع عناصر مواضيع دراستهم واستجلاء هداية الله تعالى فيها : لما صار هناك فرق بين (التفسير الموضوعي ) و(الشرح الموضوعي للحديث)؛ لأنه سيلزم من كل واحد منهما جمع النصوص القرآنية والحديثية في موضوع الدراسة ، وفهمها وفق أصول الفقه .
ولهذين الملحظين ، ولتشوف النفوس إلى فكرة الإبداع ، ولحسن نية تدعو إلى خدمة علوم الإسلام ، مع قصور تأصيلي ونقص في التصورات = خرج هؤلاء الفضلاء بتلك المناهج المختلّة لخدمة القرآن الكريم والسنة النبوية ، التي تزعم اختراع طريقة جديدة لفهم الكتاب والسنة.
ولولا أن بعضهم يخالف في التطبيق أحيانًا ما يقرره تنظيرُه ، بعدم الاستغناء عن مصادر التشريع ، لخرجت تلك الدراسات بنتائج شديدة الشذوذ ، من قبيل شذوذات نافي حجية السنة من مدعي (القرآنية) في التفسير الموضوعي ، ومن قبيل شذوذات غلاة الظاهرية من مدعي تعظيم السنة النبوية على حساب بقية مصادر التشريع ومنهج التفقه فيها !
ولو أن أصحاب فكرتي (التفسير الموضوعي) و(شرح الحديث الموضوعي) قالوا في التعبير عن فكرتهم : إننا نريد إعادة صياغة الفقه الإسلامي بمعناه الواسع (الذي يُقصد به فهم هداية الله تعالى في نصوص الوحي ، ولا يقتصر على الأحكام العملية) صياغةً عصرية ، تبرز تلك الهداية في صورة بناء متكامل الأركان وفي خطة مشروعٍ واضح الأهداف والوسائل المبلِّغة إليها ، ولم يبتدعوا فكرة إقصاء مصدر تشريعي في وضع أُسس الموضوع وعناصره (التي ابتدعوها) = لكانت فكرتهم فكرةً جليلة ، ولكان جهدهم فيها جهدًا مشكورًا .
ولو رجعوا إلى الموضوعات التي عالجها أمثالُ الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين) وابن قيم الجوزية في (مدارج السالكين)، وغيرهما كثير ، لوجدوا فيها النموذج الأمثل لغاية فكرتهم، متنزّهًا من فساد مناهجهم المخترعة المزعومة .
لذلك أنصح أصحاب هاتين الفكرتين إلى العدول عن اسميهما وعن منهجيهما ، ليكون الاسم الجديد هو (الاستلهام الموضوعي للهداية الربانية في موضوع كذا) أو (الاستنباط الموضوعي) أو (المنهج الإسلامي في موضوع كذا).. ونحو ذلك من العناوين ، التي تقوم على جمع نصوص الشرع في موضوع معين ، وتَلَمُّس الهداية الربانية فيه من خلال مصادر التشريع الإسلامي والمنهج العلمي للتعامل معها ، بمراعاة مقاصد الشرع وحِكمه وأحكامه . فإن ذلك هو ما سيحقّق غايات فكرتهم ، دون مناهج إخلالها . نعم .. سيمنعهم ذلك من دعوى اختراع علم جديد ، لكنه سيحفظ لهم حق الإبداع بقدر ما يضيفونه من دقيق الاستنباط وعميق الفهم للنصوص ، وبقدر ما يحققونه من إكمال التصور الإسلامي حول موضوع معين.
وحينئذ تعود مناهج بحوثهم إلى المناهج العلمية التي بها يكتمل الاجتهاد في فهم الإسلام وهدايته الربانية ، وتعود عناوين بحوثهم إلى العناوين السَّويّة: من مثل : موضوع كذا «في ضوء الكتاب والسنة»، أو : «في ضوء تشاريع الإسلام»، أو : «في الهداية الربانية»، أو : «وَفْقَ الاجتهاد الإسلامي»، أو : «في الفقه الإسلامي» .. ونحو هذه العناوين ، بدلا من العناوين والمناهج التي جعلت مصادر الإسلام عِضينَ ، فلا تكتمل تصوراتها عن الموضوع الذي تدرسه ، فضلا عن احتمال الانحراف الذي يصيبها بسبب ذلك .
تاريخ النشر : 1441/05/14 هـ
طباعة المقالة