الرد على من قال بجواز الجماعة خلف المذياع أو التليفزيون
بسم الله الرحمن الرحيم
الرد على من قال بجواز الجماعة خلف المذياع أو التليفزيون
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد :
فإن القائلين بجواز الجماعة خلف المذياع أو التليفزيون ينطلقون : إما من نصوص المذاهب الأربعة ، أو من الأدلة بزعمهم ، أو من الاثنين كليهما .
أما القائلون بأن نصوص المذاهب تدل على جواز الصلاة خلف المذياع أو التليفزيون :فلا يمكنهم إثبات ذلك أصلا ؛ لأن أئمة المذاهب لم يكن يخطر على بالهم وجود ما يمكن به نقل الصوت أو صورة الصلاة من بلد إلى بلد آخر تجوز بينهما رخص السفر ، كما هو حاصل بالمذياع والتليفزيون ، فادعاء أن لأئمة المذاهب (ولأتباعهم ممن جاء بعدهم قبل ظهور المذياع والتليفزيون) نصوصًا تدل على جواز الائتمام بما ينقله التليفزيون والمذياع ادعاء كاذب ؛ لأننا نقطع أن ذلك لم يكن حاضرا في أذهانهم ، ولا كان يوجد ما يُشبهه أو يقاربه في واقعهم .
لذلك كان ادعاء أن حكم هذه الحالة موجود نصًّا في المذاهب الأربعة : كذبٌ عليها ؛ فهي نازلة معاصرة ، لا مثيل لها عبر قرون متطاولة مضت قبل العصر الحديث .
وأقصى ما يمكن أن يُدعى : أن هذا تخريجٌ على قول الفقيه ، وانطلاقا من أصوله ومآخذه. وللتخريج على المذهب شرطٌ في المخرِّج والمخرَّج عليه :
أما شرط المخرِّج : فهو تمكنه من الاجتهاد في المذهب ، وبلوغه هذه الدرجة ، ولو في هذه المسألة الجزئية ، على رأي من يصحح تجزُّأ الاجتهاد .
وأما شرط المسألة المخرَّجة على المذهب : فهو إثبات اتحاد مأخذ الإمام الذي انطلق منه في حكم تلك المسألة والمسألة المعاصرة التي خُرجت عليه ، وهذا يلزم منه أولا : إثبات مأخذ الإمام بعمق الفقهاء الحقيقيين ، لا بسطحية الحفظة الجامدين أو المتسورين بجرأة الغرور على العلوم .
فإن تجاوزنا شرط المخرِّج ، للابتعاد عما يُقال إنه شخصنة ، عند تطبيقه على الأشخاص بأعيانهم ، يبقى شرط التخريج في المسألة المخرَّجة على المذهب ، وبيانه هو ما يلي :
بعض من وقفت على كلامه في هذه المسألة ظنها تتعلق بأن تصحيح الجماعة عند المذاهب مرتبطةٌ عندهم : إما بمسألة اتصال الصفوف وتواليها دون قاطع من شارع أو وادٍ ، وإما أن آخرين ظنوها مرتبطة بسماع الصوت ، وآخرين برؤية الإمام ، وآخرين جعلوها متعلقة برؤية الصفوف ، وبناء على ذلك أجاز هؤلاء الصلاة خلف المذياع والتليفزيون ؛ لأنهم قسموا هذه المآخذ بين مأخذ لا يصح دليله ، أو الدليل ينقضه ، وبين مأخذ متحقق في الصلاة خلف المذياع والتليفزيون بالرؤية أو السماع أو بأحدهما .
ولم يدرك المجيزون أنهم :
أولا : لم يأتوا بدليل (ولا دليل) يُثبت أن مأخذ تخريجهم على المذهب هو مأخذ المذهب ، خاصة مع قطعنا بأن صورة الصلاة خلف المذياع والتليفزيون لا تدخل ضمن تقرير الإمام صاحب المذهب قطعا ؛ لأنها صورة لم يكن لها أن تخطر على باله أصلا . مما كان يوجب عليهم أن لا يجزموا بدلالة المذاهب عليها أولا ، وأن يتريثوا قبل ادعاء التخريج على المذهب ثانيا ، حتى يتثبتوا من صحة المأخذ الذي يبنون عليه صحة التخريج .
وثانيا : أن مآخذهم التي زعموها مآخذ الأئمة غير صحيحة ، فالأئمة الذين اشترطوا اتصال الصفوف والذين لم يشترطوها لم يكن مأخذهم هو ما تصوره أصحاب هذا المذهب الشاذ الذي يجيز الائتمام بالتليفزيون والمذياع ، وإنما كانوا يحاولون وضع ضوابط لتحديد ما يُدخل المصلي في مسمى الجماعة التي يصلي معها :
- لأن الفقهاء كانوا يعلمون أن الصفوف قد تخرج عن حدود المسجد ، لكثرة المصلين وامتلاء المسجد : فلا يمكن أن تنحصر الجماعة في المسجد ، ولصحة الجماعة في البيوت والبراري (في غير مسجد) أيضًا . لذلك وجب أن يكون الضابط ليس هو الصلاة داخل المسجد .. قطعا .
- ولأنهم كانوا يعلمون : أن سماع الصوت ليس هو ضابط جماعة الصلاة ؛ لأن الأصم لا يسمع ، ويصح ائتمامه بجماعة المسجد ؛ ولأن الجوامع الكبيرة قد لا يسمع أصحاب الصفوف المتأخرة الإمامَ قبل وجود مكبرات الصوت ، لكبر المسجد ، أو لطروء طارئ من ريح شديدة وأمطار تبدد صوت الإمام ، أو لطروء علّة في صوت الإمام تمنعه من رفع صوته ، وجماعة هؤلاء (وحالات أخرى لمثل حالتهم في عدم السماع) جميعا جماعةٌ صحيحة ، رغم عدم سماعهم صوت الإمام . مما يبين أن سماع الصوت ليس هو ضابط صحة الجماعة ، وليس هو مأخذ الأئمة في بيان ضابط الجماعة .
- ولأنهم كانوا يعلمون أن رؤية الإمام أو الصفوف ليست بإطلاقها هي ضابط جماعة الصلاة ؛ لأن الأعمى يصح التحاقه بالجماعة وهو لا يراها . فليست الرؤية هي ضابط صحة الالتحاق بالجماعة .
فإن لم يكن لا هذا ولا ذاك هو ضابط جماعة الصلاة ، فقد سقط استدلال المجيزين بالمذاهب سقوطا كاملا ؛ لأنهم اعتمدوا على مجرد إمكان المتابعة بالرؤية والسماع أو بالسماع ، وقد تبين أن الرؤية والسماع ليسا هما فقط ضابط الجماعة عند أئمة المذاهب .
وكان على هؤلاء أن يتثبتوا من مأخذ الأئمة وضابطهم في تحرير جماعة الصلاة : ما الذي يُدخل المصلي فيها ؟ وما الذي لا يُدخله فيها ؟
والمأخذ ظاهر من الدلالة اللغوية للجماعة والمعنى العرفي لها في صلاة الجماعة التي كان يصليها النبي ﷺ ، ويجب حمل معنى الجماعة على ذلك المعنى ؛ لأنه هو المعنى المراد عندما شرع الشارع صلاة الجماعة ، وهو المعنى الذي بلّغه النبي ﷺ لأصحابه : وهو تجمع الناس للصلاة في مكان واحد ؛ لأنه هو حقيقة معنى الاجتماع والتجمع والجماعة في الأعمال البدنية لغةً وعُرفا، ومن نسب غير ذلك إلى معنى الجماعة في الصلاة في زمن النبوة فقد أوشك أن يكون كاذبًا عليه ﷺ ! وعلى كل الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين على خلاف فهمه لجماعة الصلاة.
وإنما ذهب الفقهاء أو بعضهم لاشتراط شروط في الصفوف أو غيرها ، لضبط ما يدخل في ذلك المعنى اللغوي والعرفي لدلالة العبارة التي جاءت في الشرع .
ويبين ذلك مثلا قول ابن القاسم عن الإمام مالك: «ولا بأس أن يكون بين الناس وبين إمامهم نهر صغير أو طريق» . وقال أشهب: إلا الطريق العريض جدا حتى يكون كأنه ليس مع الإمام، فهذا لا تجزئه صلاته، إلا أن يكون في الطريق قوم يصلون بصلاة الإمام صفوفا متصلة، فصلاته تامة».
فواضح من كلام الإمام مالك أنه لا يشترط اتصال الصفوف ، لكنه يشترط أن يكون هناك ما يُلحق الصفوف بالجماعة لغة وعرفا شرعيا لجماعة الصلاة . ولذلك اشترط صغر النهر ، ولذلك بيّن أشهب مراده بصورة أوضح .
ومن ادعى أن الإمام مالكا اشترط صغر النهر لمجرد سماع الصوت فقد بينّا بطلانَ قوله ، وتحكمه في تفسير مراده بخلاف فقهه الذي يتضح منه عدم اشتراط الإمام مالك سماع الإمام لصحة الجماعة في الجامع الكبير وعند خروج الصفوف عن المسجد وعند الأصم .. وغير ذلك. ويكفي صاحب هذا المذهب الشاذ أنه خالف أشهب تلميذَ مالكٍ في فهم مراده ، وأشهب أدرى بفقه مالك ممن يريد أن ينسب إلى مالك ما لم يخطر على باله قط .
وهذا كله يبين أن اختلاف الفقهاء في المؤتمين : متى يصح ائتمامهم بالجماعة ومتى لا يصح، لم يكن مأخذه مجرد السماع أو المشاهدة ، وإنما مأخذه : ما الذي يُدخلهم في معنى الجماعة والاجتماع ؟ وما هو ضابط جماعة الصلاة بدلالتها اللغوية والعرفية التي شُرعت بها صلاة الجماعة.
وكل من حاول حمل كلام فقيه سابق على خلاف ذلك فقد حمله ما لا يحتمله ؛ لأنهم ما كانوا يتكلمون عن صلاة من هو ببلد خلف إمام ببلد أخرى ، لا يتحقق فيهم معنى الاجتماع الذي هو معناها اللغوي والشرعي الذي به شُرعت صلاة الجماعة .
***
وأما المحتجون بالأدلة على صحة الائتمام خلف المذياع والتليفزيون :فهم أبعد ممن سبقوا؛ لأن الأدلة لم تذكر صورة الائتمام التي يحتجون لها ، وهي صورة ائتمامٍ مع عدم حصول أي معنى للاجتماع الذي كان مفهوما من الاجتماع في زمن النبي ﷺ ؛ وإنما ذكرت جماعة واحدة يفرق بينها جدار أو ستر ؛ لكنهم في مكان واحد . ولكون أصحاب هذا القول قد نزلوا كلام الفقهاء على غير مأخذهم ، ظنوا هذا الحديث ونحوه من الآثار التي تذكر صلاة الناس على أسطح بيوتهم دليلا لهم ، ولم ينتبهوا أن هذا الحديث وغيره كلها تذكر اجتماع الناس في موضع واحد ، يرون الصفوف أو يسمعون الإمام بهذا الاجتماع ، لا بنقل مباشر من بلد إلى بلد !
كحديث صحيح البخاري ، وهو حديث أم المؤمنين عائشة i، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام الليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين - أو ثلاثا - حتى إذا كان بعد ذلك، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس فقال: «إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل».
فمع الاختلاف في المراد بالحجرة ، وهل هي الخلوة التي كان ينصبها أمهات المؤمنين من حصير داخل المسجد النبوي لاعتكاف النبي ﷺ؟ أو غيرها ؟ ففي الرواية نفسها ما يبين أن الجدار كان قصيرا لا يمنع من رؤية النبي ﷺ ، وبها تحقق كونهم مجتمعين في مكان واحد .
وفي البخاري من حديث حديث زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة - قال: حسبت أنه قال من حصير - في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم فقال: «قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»
على أن الصحيح هو أن عائشة iتقصد بالحجرة ما ذكرته في حديثها الآخر في صحيح البخاري : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه بالنهار ، ويحتجره بالليل ، فثاب إليه ناس ، فصلوا وراءه». ونسبته إلى أمهات المؤمنين ؛ إما أنه خطأ من بعض الرواة ، أو أن المقصود بنسبته إليهن ؛ لأنهن كن هن من ينصبن تلك الحُجر من الحصير داخل مسجده ﷺ ، أو كانت تلك الحجر من الحصير اللاتي نصبها أمهات المؤمنين داخل المسجد ، كما حديث عائشة i- في الصحيح - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت، فلما رأت ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناء، فبني لها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية، فقال: «ما هذا؟» قالوا: بناء عائشة، وحفصة، وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألبر أردن بهذا، ما أنا بمعتكف» ...».
وكل هذا يبين أن هذه الحجر هي حجر من حصير في المسجد .
وكل من عرف الحجر النبوية يعلم أنه لا يمكن أن تكون هي المقصودة ، فإنها كانت حجر مسقوفة ، ولم يكن يمكن لمن كان في المسجد أن يرى من يصلي فيها ؛ إلا إن فُتح بابها على المسجد، فليس تمكن الرؤية بسبب قصر الجدار ، كما جاء في الحديث ، مما يبين أن المقصود بقصر الجدار جدار تلك الخلوة التي كانت تُقام للنبي ﷺ لمعتكفه من حصير في مسجده الشريف ﷺ .
ولو افترضنا أنه صلى في حجرة عائشة iالتي هي بيت النبي ﷺ : فهي في ملاصقتها للمسجد ، وفي انفتاح بابٍ منها إلى المسجد مباشرة ، ما يجعل الاجتماع متحققا بالائتمام بها ، مع إمكان اتصال الصفوف من حجرتها إلى مسجده ﷺ من خلال هذا الباب .
وكل ذلك يبين أنه لا دليل في هذا الحديث من قريب أو من بعيد على دعوى أن صلاة الرجل في بلد مؤتما بمن يصلي في بلد آخر خلف المذياع أو التليفزيون يسمى جماعة ؟! أي جماعة لغوية أو عرفًا شرعيا لهذه الجماعة التي ما كانت متخيلة عند من خوطبوا بشرعية الجماعة والحث عليها .
***
أما اللوازم الفاسدة المترتبة على هذا القول فهي كثيرة :
- منها : أن اطراد هذا القول فيه تعطيل للمساجد بعد انتهاء هذه الأزمة ، لا في النوافل فقط (كالتراويح) ، بل في الفرائض أيضا . وأما ادعاء التفريق بين النوافل والفرائض في ذلك : فهو تفريق باطل بغير دليل ؛ لأن الأصل أن كل ما ثبت للنفل ثبت للفرض، والعكس صحيح ؛ إلا ما جاء الدليل يخص به النفل أو الفرض . وليست المسألة بالأهواء ، نفرق بينهما ما نشتهي فيه التفريق ونجمع بينهما فيما نشتهيه ، وكل صلاة صلاها النبي ﷺ فهي هيئة للصلاة (نفلا كانت أو فرضا)، إلا إن دل الدليل على التخصيص . ونسي القائلون بالتفريق هنا أن النصوص التي يحتجون بها من كلام الفقهاء كانت تشمل الفرائض والنوافل ، ككلام الإمام مالك وغيره .
فانظر كيف يؤدي القول الباطل إلى لوازم باطلة ؟! وكيف يؤدي الحماس غير المنضبط بالفقه إلى ضد ما تحمس له هذا المتحمس !
- ومع إطلاق أصحاب هذا القول يصبح صلاة أهل المغرب والمشرق مع بعضهم صحيح في الفرائض والنوافل ، وأن يصلي أهل المغرب مع الحرمين كصلاة التهجد ، عند من يشترط اتحاد نية الإمام والمأموم ، ومن لا يشترطها من الفقهاء يجوز أن يصلوا الفرائض مع اختلاف النية !!
وعندها : هل سيكون من صلى في تونس أو المغرب أعظم أجرا ممن صلى في مسجد محلته فيهما ؟! لأنه قد صلى مع الحرمين؟ على رأي من يرى أن فضل الصلاة في الحرمين شامل لكل من صلى مع جماعته، ولو صلى خارج بناء المسجد ؟ وسيكون لقوله هذا وجها معتبرًا في كلام الفقهاء وأدلتهم !!
وهذا سيؤدي إلى الزهد في عمارة الحرمين والسفر إليهما لنيل أجر الصلاة فيهما !!
- وعلى هذا القول ستكون صلاة النافلة خلف المذياع أو التليفزيون أفضل من صلاته في المسجد ! لأنها جمعت بين أمرين ، وهي أنها صلاة مع جماعة المسجد الذي يأتم به ، وهي نافلة في البيت ، فنال فضل صلاة الجماعة في المسجد وفضل النافلة في البيت التي قال فيها النبي ﷺ : « أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته ؛ إلا المكتوبة».
ومرة أخرى سيؤول هذا القول إلى هجر المساجد ، بسبب هذه الفتوى الشاذة .
- لو اتخذ رجلٌ في بيته موضعا للصلاة ، وهو الذي كان يسمى بمساجد الدور والبيوت، وكانوا يصلون فيه نوافلهم وجماعة بيوتهم . فلو أقام فيه الصلاة مع أهله دائما خلف إمام عبر التليفزيون أو المذياع ، لمن قد يكون في بلد آخر ، يشترك معه في الوقت ، لماذا لا يأخذ هذا المسجد حكم المساجد في كل شيء ، حتى في الاعتكاف . ما دام مخصصا للصلاة فقط ، وما دامت تقام فيه الصلوات الخمس كلها ؟!
بل لماذا لا تلحق صلاة الجمعة بذلك أيضًا ، وكل استثناء يمكن أن يحتجوا به ، يمكن تأويله ، والاستدلال لضده ، حتى يصبح هذا القول عند الجهلة قولا صحيحا أو وجيها !!
وتجويز صلاة الجمعة خلف المذياع قد قيل منذ قرابة القرن ، وليس مجرد إلزام ، فقد اطرد اجتهاد أصحاب هذا الشذوذ ، حتى التزموا بذلك ، وألف أحدهم فيها رسالة مطبوعة ، وهي رسالة (الإقناع بصحة صلاة الجمعة في المنزل خلف المذياع) لأبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري !!
- وإذا جازت الصلاة خلف التليفزيون والمذياع فلماذا يؤذن في المساجد ؟! يكفينا أذان التليفزيون والمذياع إذن ! أم أصبحت الوسيلة أهم من الغاية ؟! فالأذان (الذي هو وسيلة لدعوة الناس إلى الصلاة) لا يُشرع إلا من المساجد ، وأما الصلاة فتشرع في البيت ؟! والحاصل أننا نسمع الأذان أيضا في التليفزيون والمذياع ، وهو لا يحتاج صفوفا ولا رؤية مؤذن ولا إمام بالإجماع !
وأخيرا : أين ذهبت أحاديث تسوية الصفوف وسد الفرج ؟ أين ذهبت علة تفضيل صلاة الجماعة ، وهي عمارة المساجد ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾، التي هي شعار عظيم من شعائر الإسلام ، وأين علة الاجتماع الحسي في المساجد الذي يؤدي إلى تعارف المسلمين وتكاتف الجيران ؟
أما من زعم هذه حِكَـمًا وليست عللا ، فليبين لنا الحكمة من تشريعه صلاة الجماعة خلف المذياع والتليفزيون ، ولماذا فضلت على صلاة الفرد ؟ والحاصل أن صلاة الفرد في بيته مع جماعة المذياع أو التليفزيون ستكون أفضل ، خاصة في النافلة كما سبق .
أخيرا : أعلم أن هذا القول الشاذ ليس وليد هذه الأزمة ، فقد كتب بعض من عُرف بالشذوذات رسالة في ذلك منذ القرن المنصرم ، يجيز فيه الائتمام بالمذياع حتى في صلاة الجمعة . لكن كان هذا القول كان قولا مهجورا ميتا ، حتى وقع الناس في هذه الأزمة التي أُغلقت فيها المساجد منعًا من انتشار هذه الجائحة ، فقادهم الحماس غير المنضبط والعاطفة التي لا تتقيد بالفقه والشرع إلى إحياء القول الشاذ المطّرح ، ونفخوا فيه بنقول لا علاقة لها بالنازلة ، ولبّسَ عليهم عدمُ فقههم ، فلبّسوا على الناس دينَهم ، سامحهم الله وعفا عنهم وردهم إليه ردًّا جميلا .
لذلك أحببت بيان بطلان هذا القول غَيرة على الشرع وأحكامه وعلى الفقه وعلومه ، معتذرًا عن أي لفظ قاس صدر مني ، إنما أردتُ به حماية جناب الشرع الحنيف وعلومه الجليلة.
والله من وراء القصد .
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين ، وعلى ذريته إلى يوم الدين .
في30/ 8/ 1441هـ الموافق 23/ 4/ 2020م
تاريخ النشر : 1441/09/02 هـ
طباعة المقالة