كورونا والعالم

كورونا والعالم
نحمد الله تعالى على ما أولانا من نعمه ، وعلى ما أسبغ علينا وعلى الناس كلهم من كرمه ، وأصلي وأسلم على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله إلى يوم الدين .
فلا شك أن هذا الحدث الغريب الذي لم تعرف البشرية له مثيلا قط ، حيث إنه عمّ العالم بجميع قارّاته ، ليوجب على البشر أن يستفيدوا منه :
- أن يدرك البشرُ كلهم ضعفَهم أمام قدرة الله تعالى ، وأن يَدَعوا غرورَهم بمخالفة شرائعه ؛ فقد هزمهم هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة ، هزمهم رغم جيوشهم وأسلحتهم المدمرة ، هزمهم رغم تقدمهم العلمي الذي ظنوه قد بلغ القمة، وحسبوا أنه لن يُعجزهم شيء، فهزمهم .. رغم كل إنجازاتهم العلمية واكتشافاتهم ؛ لكي يدركوا ضآلةَ ما عرفوا ، في مقابل ما جهلوا ؛ لكي يدركوا أنهم أقلّ وأضعف من أن يغترّوا بما وهبهم الله تعالى من المعارف ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾.
- أن يعرف البشر أن ما يبذلونه في التسليح وآلات الدمار كان ينبغي أن يكون كله أو غالبه في البحث العلمي ؛ لأنهم لو كانوا فعلوا ذلك بقصد نفع البشرية : لربما كانوا قد نجوا من هذه الجائحة ، بالوقاية منها ، وبإيجاد العلاج الشافي منها (بإذن الله).
- أن يعلم البشر حاجتهم للنبوات والشرائع السماوية ، التي تبين لهم علاقتهم بالموجودات ، وكيف يتعاملون معها ؛ لأن تلك الشرائع هي هداية الله للناس من شطط الغرائز وانحراف الأخلاق وانطماس الفِطَر ؛ لأنها جاءت هاديةً لهم إلى ما يُسعدهم . فقد جاءت الشرائع (مثلًا) تبيح مطعومات وتحرّم أخرى ، لا عبثًا ، ولا تضييقًا على الناس ، وإنما قياما على ما فيه مصلحتهم . فلما تجاوز الناس حدود ما تبيحه الشرائع من المطعومات والمشروبات وغير ذلك من الأفعال : ظهرت فيهم الأوبئة ، كفيروس كورونا .
- أن يُقدّس البشر سُنن الله تعالى في الخلق ، فلا يحاولوا التدخّل بالإفساد في قوانين الطبيعة ؛ فإن الذي خلق الأرض يغار عليها من الإفساد ، قال تعالى ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾؛ فقد بدت حكمةٌ لله تعالى في هذا الفيروس ، وهو أن تتنفس الأرض من آثار الانبعاثات التي أفسدت غلاف الأرض الحامي لها من الأشعة الضارة المنبعثة من الشمس ، لقد رأى الناس زُرقة السماء التي كانت محجوبة عنهم في عدد من عواصم العالم .
- أن يتذكّر الناس حقيقة طالما غفلوا عنها أو تغافلوا عنها : وهي أنهم يعيشون في كوكب واحد ، جعلته وسائلُ النقل والاتصالِ الحديثةُ قريةً واحدة ، فما يُبتلى به شعبٌ ستظهر آثاره على بقية الكوكب .
- أن يتحقق الناس (الناس كلهم) أن أخوتهم الإنسانية توجب عليهم أن يقوموا بحقها: تراحما وتعاطفا وتعاونا في الخير ، فلا تكون المصالح الخاصة بشعب سببا لتجاهل شعب آخر ، فضلا عن الاعتداء عليه طمعًا في مقدراته وثرواته . لقد أجبرتنا هذه الجائحة أن نجلس جميعًا في عزلة واحدة (دولنا الغنية ودولنا الفقيرة على حد سواء ، دول العالم الأول والعالم الثالث)، تَلَـفُّنا جميعًا أرديةُ التخوّف والحذر ، ونترقّبُ ساعة الانفراج بالأمل . لم ينج من هذا الواقع رئيس دولة ، ولا عامل في شارع ، ولا الدول المتقدمة ، ولا الدول النامية : الجميع عرف أنه إنسان ، الجميع أدرك أنه كغيره من البشر، لن يميزه لونُه ولا عِرْقُه ولا جنسيته ولا كل عُنصريات البشر وعنجهياتهم .
- أن يعلم المتعادون والأصدقاء : أن نجاتهم لن تتم بهلاك عدوهم ، بل نجاتُهم مرتبطةٌ بنجاة عدوهم وصديقهم على حدٍّ سواء ! فلو نجت بلدُك من هذا الوباء وتجاوزَ مرحلة الخطر فيه ، لكنّ بلد عدوك ما زال المرض فيها متفشيًا ، ما الذي يحميك ويحمي بلدك من أن تعبر العدوى إليك في دورةٍ جديدة لتفشّيه ؟! لذلك أنت مضطرٌ لطلب النجاة لعدوك ، كما تطلبه لنفسك ! أرأيتم كيف بَيّنتْ هذه الجائحةُ تفاهةَ العداوات ، أمام ما يُهدِّد البشرية؟!
لذلك فإني أختم بهذه الدعوات : اللهم إني أسألك بخلقك الخلق وبإرسالك الرسل وبإنزالك الشرائع لخيرهم ولصلاحهم : أن ترفع عن البشر جميعًا هذا الوباء وكل بلاء ، وأن تشفي كل مبتلى ، وأن تُنزل الصبر والسلوان على قلب كل من فقد عزيزا عليه .
اللهم أنت ربنا الذي لا رب للبشر إلاه ، أنزل علينا بركاتك ورحماتك ، برحمتك .. لا بِعَمَلِنا، وبحلمك عن غرورنا ومعاصينا ، وبجودك الذي لا يُقايضنا بأفعالنا !
اللهم نظرَك إلينا ، فنظرُك إلينا رحمة ، يرفع عنا سخطَك وعذابك ، ويملأ قلوبنا وبلادنا وأرضنا بآثار رحمتك .
اللهم هذه دعوات المؤمنين في كل الأرض ، لجؤوا إلى رحمتك وكرمك ، فاكشف عنهم البلاء ، واجعل لهم فيه عودة إليك ، والاعتراف بحاجتهم إليك وافتقارهم لهدايتك .
اللهم آمين .
مكة المكرمة
13/ 9/ 1441هـ الموافق 5/ 5/ 2020م
تاريخ النشر : 1442/02/04 هـ
طباعة المقالة