عندما يصبح الغُلُوُّ في ابن تيمية سلفيةً ، والموقف المنصف منه
عندما يصبح الغُلُوُّ في ابن تيمية سلفيةً
والموقف المنصف منه
لقد أصبح الغلو في ابن تيمية بحد ذاته (سلفية)، مع أن ابن تيمية بذات نفسه ليس من السلف أصلا ، وبينه وبينهم قرون . وإنما هو عالم ، كبقية علماء المسلمين . ومع أن الغلو بحد ذاته ليس من منهج السلف الصالح ، بل هو منهج أهل البدع والأهواء المضلّة !
بل لقد أصبح التغالي في ابن تيمية سباقا بلا غاية لادعاء العمق في العلم ، ونقاءِ العقيدة ، والعضِّ بالنواجذ على السنة ، والتجنّس بجنسية أهل السنة والجماعة ، بل لقد أصبح ذلك الغلو دليلَ إثباتِ قوة الإيمان وشهادةً برسوخ اليقين .ولذلك يشتدّ الجارون العادُون في هذا الغلو جائرين عادين على العقل والعلم ، بعد أن جعلوا العدل تحت أقدام غلوهم .
لقد أصبح هذا التغالي عندهم صكَّ الغفران ، بل أصبح المهر المعدّ للجنة في حُسبانهم ، وكل واحد منهم يعطيه لنفسه ، فهو الماهر والممهور ، ودون حاجة لقسّيس يهبه إياه ويبارك هذا العقد ، ولذلك فما زالوا في مضماره يلهثون ، لا ينتهون فيه إلى غاية .
وما انتبهوا إلى أن مدحهم كلما اتسع خرقه وتطاول وتطاير اتسع معه مدحهم لأنفسهم وتطاول استكباره وتطاير شَررُه ؛ لأنك أيها التيمي الصغير عندما تتلمّظ عباراتك في المدح بلسانك ، وتشهق وتزفر متأوّهًا وأنت تذكرها ، وكأنك مجنون ليلى ، وتهز رأسك طربًا بذلك المدح ، وتتبسّم كتبسم الممثّلين عندما يمثّلون انشراح الصدر بالإيمان : فأنت قد جعلت نفسك مهرّجًا بلحية وبهلوانا بزي طالب علم ، لأنك بتعميمات مدحك الغالي قد ادعيت أنك محيطٌ بعلم العلماء ، ثم بعلم ابن تيمية بعدهم ، ولذلك علمتَ بهذه الإحاطة أنه شمسُ المعارف ومعرفة الشموس !
إذن فأنت يا حبيبي مجرة درب التبانة ، إذا عرفتَ شمس المعارف ومعرفة الشموس !
وإلا بأي حق جاز لك أن تدعي امتلاكك هذا الميزان الحاصر الواسع ؟!
إن كنت مقلّدا ، فتواضع ، وتكلم بكلام المقلدين .
وإن كنت تحسب نفسك متبعا للدليل ولكنك لست مجتهدا ، فتواضع أكثر ، واجعل لاحتمال الخطأ موضعا في كلامك ، فلا تبتّ المدح ، ولا تدعِ أن كفّتي ميزانك قد وسعت علوم الإسلام وعلوم علمائه ، كما هو مقتضى غلوك في المدح الذي شملت به علوم الإسلام وعلمائه !! استحِ من نفسك أن يراك العقلاء واضعًا نفسك هذا الموضع الذي لا يضع نفسه فيه إلا مغفل ، لا يدري أن كلامه أكبر من حجمه بآلاف المرات ، ومع ذلك لا يجد حرجا أن يجلس جلسة الجبال الشوامخ وهو هباءة متطايرة .
لقد قلتُ وكررت منذ سنوات :
«لقد عانت الأمة من غلو المدح كما عانت من بغي القدح . وكلاهما جور وظلم ، ولن ينتج من الجور والظلم إلا الشر والباطل .
وبعض الناس لا يتحرز إلا من الذم الباطل ، وينسى أن المدح الباطل أخوه في النسب للباطل وقرينه في سوء الأثر».
فليتق الله امرؤ يخشى الله ! فما خرج عن العدل إلا الظلم ، وما خرج من الظلم إلا الفساد : فساد الدنيا والآخرة .
سيقولون : ولماذا ابن تيمية خاصة ؟! ألا يوجد غلاة في غيره ؟!! وسأقول : عُدُّوه مثالا مضروبًا لغيره ، بعد أن تعترفوا بوجود الغلو فيه ! وما أحسبكم فاعلين ؛ لأن الغلو إذا تَجارَى بصاحبه ، لم يعد يشعر بغير أنفاسه المتقطعة من شدة العدو !
فإن قيل : ما الموقف المنصف عندك من ابن تيمية ؟
أقول :
شيخ الإسلام ابن تيمية أحد شيوخ الإسلام ، وليس أعلمهم ، فأين هو من الخلفاء الراشدين الأربعة ومن فقهاء الصحابة كابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن عمر ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأمثالهم (رضي الله عنهم أجمعين)؟!
وأين هو من شيوخ الإسلام من أئمة التابعين كفقهاء المدينة السبعة ، وتلامذة ابن مسعود بالكوفة ، وتلامذة ابن عباس بمكة ، والحسن البصري ومحمد بن سيرين بالبصرة وأمثالهم .
وأين هو من الأئمة المتبوعين الأربعة : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ؟! وأقرانهم كالأوزاعي والليث بن سعد والثوري وأمثالهم ؟!
وكذلك لم يخل قرنٌ ولا جيل إلا وفيه من هو أعلم منه أو مثله ، فهذه الأمة نجيبة ولودة بالنجباء ، ولم تعقم ، ولم تكن مُحمَّقة (لا تلد إلا الحمقى).
شيخ الإسلام ابن تيمية كغيره من شيوخ الإسلام إنما استجاز غالب العلماء تلقيبهم بذلك لأنهم جمعوا بين عظم العلم وعظم النفس وعظم العمل ، فاستحقوا أن يحملوا هذا اللقب عن جدارة ، وليس لقب وظيفة كما حصل في الدولة العثمانية .
ويتميز ابن تيمية في كتاباته كغيره من كبار العلماء بأنه كثير الاستقلال ، في عرض أفكاره وأفكار غيره ، وفي الاستدلال والمناقشة والاحتجاج ، ولا يقتصر على النقل كما هو حال كثيرين غيره ، ولذلك لا تخلو كتاباته من إضافة ، توجب على من أراد البحث أن يقف عليها . وهو غزير المؤلفات التي تُظهر استقلاليته ، ولذلك سيبقى المحب والمبغض مضطرا للرجوع إلى نتاجه ، وسيبقى المنصف في الموافقة والمخالفة له يجد نفسه متناولا آراءه بالمناقشة والتأييد أو الردّ .
ولابن تيمية مع ذلك أخطاء ، بعضها كبير ، لكنه بحر لا تكدره الدلاء ، ولو استحالت غُروبا (دلاءً عظيمة).
ولذلك لا يُنصح المبتدئون بالقراءة له ، ولا المتوسطون ، بل هو صنعة الباحث المنتهي ، القادر على تمييز الصواب من الخطأ . والأهم في صفة هذا الباحث أن يكون ممن يقدر أن ينجو من سطوة الانبهار به ، حتى لا ينجرّ للغلو فيه .
تاريخ النشر : 1444/07/22 هـ
طباعة المقالة