لماذا يقصد المسلمون غار حراء بالصعود إليه ؟
لماذا يقصد المسلمون غار حراء بالصعود إليه ؟
غار حراء : هو الغار الذي يقع جنوب شرق المسجد الحرام على بُعد نحو أربع كيلومتر عن الحرم المكي الشريف ، وهو الغار الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبّد به قبل نزول الوحي عليه الليالي ذوات العدد ، وهو الذي شهد أول لحظات نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بفواتح سورة اقرأ : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]، وهو الغار الذي ضم فيه جبريلُ(عليه السلام)سيدَنا محمدا صلى الله عليه وسلم في قصة بدء الوحي الشهيرة .
إذن لا تسل : لماذا يقصد المسلمون غار حراء بالصعود إليه ؟ وما هي العبادة المتعلقة بالصعود عليه ؟
لأن العبادة المتعلقة به : هي صعوده كما صعده النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعد البعثة ، وكما صعده معه أصحابه رضي الله عنهم. فهذا الصعود سنة نبوية ثابتة بالأحاديث الصحيحة ، خاصة تلك الأحاديث التي تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد صعد غار حراء حتى بعد أن نزل عليه الوحي وبعد أن أسلم عامةُ المهاجرين ، ومنهم الخلفاء الراشدون وبقيةُ العشرةِ المبشرين بالجنة .
فهذه أول عبادة مشروعة ومقصودة : وهي الصعود إلى غار حراء ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم، والتي المقصود منها تحصيل المعاني الإيمانية الآتي ذكرها :
إذ إن من العبادات المشروعة والمقصودة بالصعود إلى غار حراء : أخذ العظة والعبرة من حادث تخلّي النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء قبل البعثة ، بتذكر مقدار معاناة النبي صلى الله عليه وسلم في تعبّده قبل البعثة في هذا المكان البعيد عن منازل مكة في ذلك الوقت ، ومقدار ما كان يشعر به من الوحشة من رؤية الأصنام والشرك مما جعله يختلي في هذا المكان البعيد ، وعظيم عناية الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعداده بذلك التخلّي والتعبّد لتحمّل أعباء الرسالة التي اصطفاه الله تعالى لها منذ الأزل .
كما أن من العبادات المتعلقة بهذا الموضع : الاستفادة من قصة تلك الخلوة بأن يعلم المسلم أهمية خلوته بربّه عزّ وجل ، وأنها من وسائل تزكية النفس من أدوائها كالرياء والسمعة ، ومن مشاغل الحياة ومتاعبها ، وفي زيارة هذا الموضع الشريف تتمثّلُ تلك المعاني للخلوة التعبديّة ومنهجها وتُستحضر في النفس بما لا يمكن أن يفي بمعانيه أبلغُ كلام ؛ لفضل ما يحصل بمشاهدة الحسّ على ما يحصل بالخيال ، فمشاهدة غار حراء في شدة عزلته وبُعده عن كل مظاهر الترف ، بل في شدة تقشّفه وخلوّه من كل متاع الدنيا : سيكون درسًا عمليًّا لن يستغني عنه المسلم الذي يصبو إلى زكاء نفسه { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].
كما أن من العبادات التي يسعى المسلم لتحقيقها في هذا الموضع : زيادة محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه ، الحب الذي هو سبب ذَوْقِ حلاة الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ...»، وهو الحب الذي لا يصح الإيمان إلا به ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين». وكيف لا تزداد محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تُستحضر في القلوب بالوقوف على مشاهِدِه صلى الله عليه وسلم ، ومعاينة مواضع تعبّده ، واستشعار معاناته ومكابدته من أجل تبليغ دعوة ربه عز وجل .
كما أن من العبادات الإيمانية التي سوف يستفيدها المسلم من زيارة غار حراء : استحضار أول لحظةٍ لاتّصال السماء بالأرض ، بنزول جبريل(عليه السلام)على النبي صلى الله عليه وسلم بأول آيات الهداية وفاتحة أنوار الوحي ؛ إذْ هنا التقى جبريل(عليه السلام)سيدُ الملائكة بسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، هنا أضاءت الدنيا بأنوار الآخرة ، هنا يقف المسلم حيث تم هذا اللقاء الذي لا يبلغ شرفُ الدنيا كلُّه مجموعًا ذرّةً من أجزاء شرفه الذي اتصل بالسماء السابعة !
إن العبادات الإيمانية المتعلقة بهذا المكان أكثر من أن تُحصى ، والعبادات القلبية أجل أن نبلغ فيها نهايتها .
لكن هناك عبادةٌ عملية قائمة ، مع تلك العبادات القلبية : وهي ما افتتحنا به هذا العرض، ألا وهي : عبادة صعود جبل النور إلى غار حراء ، كما صعده النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهمبعد أن نزل الوحي على قلب إمام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم .
فقد ثبت من حديث جمعٍ من الصحابة رضي الله عنهمأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد هو وعددٌ من أجلّ أصحابه إلى غار حراء ، مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك بعد نبوته ، وكل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة فهو تشريعٌ وسُنّةٌ من سُنَنِ الهُـدىٰ التي يُشرع الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيها .
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير. فتحركت الصخرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اهدأ. فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»([1]).
وصححه مع الإمام مسلم : الترمذي([2])وابن حبان([3])وعامة أهل العلم .
وثبت من حديث عثمان بن عفان (رضي الله عنه)ثالث الخلفاء الراشدين : فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال: أشرف عثمان من القصر، وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه، ثم قال: "اسكن حراء، ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وأنا معه ؟ فانتشد له رجال»([4]).
وثبت من حديث سعيد بن زيد (رضي الله عنه)أحد العشرة المبشرين بالجنة ، قال : «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فقال: «اسكن حراء، فإنه ليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد» . قال: قيل: ومن هم؟ قال: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وابن عوف، قال: فقيل فمن العاشر؟ قال: أنا، يعني نفسه»([5]).
وثبت من حديث بُريدة بن الـحُصَيب (رضي الله عنه)، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فتحرك الجبل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اثبت حراء، فإنه ليس عليك إلا صديق أو شهيد»([6]).
فهؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهمقد ثبت عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد إلى غار حراء بعد بعثته ، وهم :
- عثمان بن عفان (رضي الله عنه).
- وسعيد بن زيد (رضي الله عنه).
- وأبو هريرة (رضي الله عنه).
- وبُريدة بن الحصيب (رضي الله عنه).
وصحح الحديث بذلك جمعٌ من أهل العلم ، ولم يضعفه أحدٌ ، منهم :
- الإمام مسلم.
- والترمذي .
- والنسائي .
- وابن حبان .
- والدارقطني([7]).
- والحاكم .
- والضياء المقدسي .
- ومن آخرهم : الألباني([8]).
بل لقد بلغ من كثرة من روى هذا الحديث : أن أحد سادة التابعين وفقهائهم وهو عامر بن شراحيل الشعبي ذكر أنه سمعه من عدد وفير منهم ، حتى قال (على وجه المبالغة على أسلوب العرب في إرادة التكثير ، لا حقيقة العدد) إنهم ألف إنسان ! فعن منصور بن عبد الرحمن البصري ، قلت للشعبي. أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثبت حراء فليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد» فقال: نعم، قلت: من كان على الجبل يومئذ؟ قال: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وأنت وأصحابك يقولون: لبعض الجنة، وبعض في النار، فقلت يا أبا عمرو ممن سمعته؟ فقال : والله لو حدثتك إني سمعته من ألف إنسان ، لرأيت أني صادق»([9]).
وهذا يعني : أن قصد غار حراء سنة نبوية ؛ لأن صعوده صلى الله عليه وسلم عليه هو وأصحابه رضي الله عنهمقد وقع بعد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقتصر صعوده غارَ حراء على صعوده عليه قبل البعثة . بل استمرّ النبي صلى الله عليه وسلم يصعد حراء بعد نزول الوحي عليه ، وهذا دليل على مشروعية قصده بالزيارة والصعود إليه ، وأنه مكان شريفٌ مقصودٌ بالصعود ، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ولا نحتاج بعد ثبوت هذا الفعل النبوي إلى رأي أحدٍ حول مشروعية قصد غار حراء بالزيارة وبالتشرف بها وأخذ العبرة منها وطلب زيادة الإيمان بها .
وكتب
في 26/ 6/ 1445هـ = 8/ 1/ 2024
([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم420)، وفي فضائل الصحابة (رقم751، 805)، والترمذي وصححه (رقم3699)، وابن حبان في صحيحه (رقم3249)، والضياء المقدسي في صحيحه –الأحاديث المختارة –(رقم358-359، 395).
([5]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم 1630، 1638، 1644، 1645)، وفي فضائل الصحابة (رقم82-84، 250-255، 279)، وأبو داود (رقم4648)، وابن ماجه (رقم134)، والنسائي في الكبرى (رقم8100، 8134-8136، 8148، 8149، 8151)، والحاكم وصححه (رقم6030)، والضياء في صحيحه –الأحاديث المختارة –(رقم1081، 1082).
تاريخ النشر : 1445/06/28 هـ
طباعة المقالة