(( هل أستطيع ألا أحبّ نيكولا ؟! ))
بسم الله الرحمن الرحيم
(( هل أستطيع ألا أحبّ نيكولا ؟! ))
البيتُ احترق وأصبح رمادا، ونجّى الله أهلي وأولادي بتدخل جاري النصراني "نيكولا"، الذي أصيب بحروق وجروح نُقل على إثرها إلى المستشفى، سارعت إلى زيارة جاري "نيكولا" في المستشفى من غير شعور مني، فوقع له في قلبي من الحب والمودة شيء لا يوصف، لصنيعه مع أهلي، ثم للمشهد الذي رأيته وهو على سرير المستشفى، كل ذلك في سبيل إنقاذ أولادي، فوقعت أزمة بين قلبي وعقلي، قلبي أحبّ "نيكولا" لما بذله من معروف ونجدة من أجل أهلي وأولادي، وعقلي عاتبني قائلا: كيف تحب نصرانيا كافرا، أين دينُك؟! أين عقيدة الولاء والبراء فيك ومنك؟!
فكانت القطرة التي أفاضت الكأس، والقشة التي قصمت ظهر البعير، والسؤال الذي أزال الغشاوة، وجلّى الإشكال هو:
هل أستطيع ألا أحب "نيكولا"؟! بل هل أملك ألا أحبه؟! وهل هذا داخل في مقدوري وطاقتي أصلا؟!
تذكرت حينها حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه عند البخاري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الآن يا عمر».
فراودني إشكال، كيف بين طرفة عين وانتباهتها يصبح الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحبَّ إلى عمر من نفسه، وكان قبلها بلحظات وثوانٍ أحب إليه من كل شيء إلا من نفسه، وهل المسألة ضغطة زِر؟!
وقد تفطن أهل العلم بالحديث رحمهم الله لهذا الإشكال، فوجّهوه وأجابوا عنه بما لا يصادم الفطرة التي هي دين الله حقيقة {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } بأجوبة، ملخصها ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله في الفتح:
قوله « فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي » فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الآن يا عمر».
قال الداوودي: وقوف عمر أول مرة واستثناؤه نفسه، إنما اتفق حتى لا يبلغ ذلك منه، فيحلف بالله كاذبا، فلما قال له ما قال تقرر في نفسه أنه أحب إليه من نفسه فحلف كذا قال.
وقال الخطابي: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه.
قلت ـ القائل الحافظ ـ : فعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار ولذلك حصل الجواب بقوله «الآن يا عمر» أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب. فتح الباري (11 /528).
وتتمة كلام الإمام الخطابي رحمه الله كما في أعلام الحديث:
يقول ـ يقصد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : لا تَصْدُق في حبّي حتى تفدي في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك. اهـ أعلام الحديث (4/2282).
قلت:
ومحصّل كلام الداوودي رحمه الله أن عمر رضي الله عنه كان يحبُّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكثر من نفسه حقيقة في الواقع، لكن خشية أن يكون مبالغا وادّعى ما يخالف ما فطر الله عليه الناس من أن أعظم المحبة محبة النفس استثنى نفسه احتياطا، ولذلك لم يحلف ولم يقسم، فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن كمالَ المحبة وذورتَها تقديمُ محبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على محبة النفس أسفر عمر رضي الله عما في نفسه وأقسم على ذلك.
وأما الخطابي رحمه الله ففرّق بين محبة الطبع ومحبة الاختيار، وهذه الأخيرة تعني ما يجب على المؤمن بأصل الشرع في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المحبة والتقدير والنصرة والفداء والتعزير، والتي تعني ما ينبغي أن يلزم به المرء نفسه في هذا الباب، فالتزم عمر بذلك فقال له الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم «الآن يا عمر».
وكل هذا دليل على أن المحبة التي هي عمل القلب وميله إلى المحبوب، هذا مما ليس داخلا تحت القدرة، وهذا ما حمل هؤلاء الأعلام الذين يعلمون أن هذا الدينَ دينُ الفطرة، ويستحيل أن يأتي بما يعارضها، للإجابة عن هذا الإشكال من ظاهر هذا الحديث.
ولهذا قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله:
إن قال قائل: كيف كلّفه بما لا يدخل تحت طوقه؛ فإن المحبة في الجملة ليست إلى الإنسان، ثم إن حبه لنفسه أشد من حبه لغيرها، ولا يمكنه تغيير ذلك؟
فالجواب: أنه إنما كلفه الحبّ الشرعي، وهو إيثاره على النفس وتقديم أوامره على مراداتها. فأما الحب الطبعي فلا. اهـ كشف المشكل من حديث الصحيحين ( 4 / 168).
إذا تقرر ذلك، فإن المعلول الملازم للعلة، والأثر الذي يتبع المؤثر، ليس في المقدور أن يُكلف العبد بالتخلي عنه واجتنابه، لأنه والحالة هذه من باب التكليف بما لا يطاق كما قال ابن الجوزي رحمه الله، ومن التكليف بغير مقدور المطالبة بالأسباب من دون مسبباتها الملازمة لها بالضرورة، وبالعلل بدون معلولاتها، فمثل هذا لا تأتي به الشريعة.
فالحب يوجد بالضرورة عند حضور دواعيه، ووجود بواعثه، وتحقق أسبابه، حتى مع الحيوان كالهرة، والكلب، والخيل، والإبل، والغنم ووو، فكيف ببني آدم؟!
فلا يملك العبد أن يبغض من أحسن إليه، وسهر على راحته، وأكرمه، وتلطّف له في القول، وأحسن له في الفعل، هذا ما لا يتصور إلا بنوع من المكابرة والمخادعة للنفس البشرية، التي جبلت على ضد ذلك.
قال الله عزّ وجل: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }، والفصل بين البر والمحبة لا يكاد يتصور وقوعه، فإن كان موجودا فهو في الأذهان لا في الأعيان، كبِرِّ الولد المسلم بوالده النصراني، وبرِّ الزوج بزوجته النصرانية.
ثم لفت انتباهي هذا القيد: { لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } فهذا لم يقاتلنا في الدين فشرع لنا الشارع الحكيم لنا مبرّته وإقساطه، فكيف بمن أحسن إلينا وسعى فيما ينفعنا، بل ربما حتى فيما هو من ديننا، كما هو مشاهد في واقع الناس في بعض البلاد الغربية في هذا الزمان، التي يدافع فيها بعض نوابها ووُزَرائها عن حقوق المسلمين الدينية في الحجاب والمساجد والصلاة والأذان، مما قد يحاربه بعض من ينتسب إلى الإسلام في بعض البلاد الإسلامية، وهذا قمة العدل والإنصاف، بل هو الكمال الأخلاقي في هذا الدين العظيم أن فرّق بين المحبة الطبيعية والمحبة الشرعية.
وبعض الجهلة لما سئل سؤالا محرجا، فقيل له: كيف يعاشر الرجل زوجته النصرانية وهو لا يحبها؟
قال: كما أن المغتصب يغتصب المرأة ويعاشرها وهو لا يحبها، فكذلك يعاشر المسلم زوجته النصرانية وهو لا يحبها، وراح يقرّر لهذا الهراء بقول الله تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية.
قاتله الله أنى يؤفك! خاب وخسر الجاهل الصاد عن سبيل الله، قاطع الطريق أمام السالكين إلى دين الله!!
وحري بعبارة مثل هذه لو ترجمت إلى لغات أجنبية أن تكون سببا في صدِّ أُممٍ عن هذا الدين ( تعاشر زوجتك النصرانية وأنت لا تحبها كما يعاشر المغتصب المرأة المغتصبة وهو لا يحبها )، وينسب هذا لدين الله بهتانا وزورا ـ تعالى دين الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وليس في شرع الله ما يمنع من محبة الزوجة النصرانية ولا الوالدين النصرانيين ولا الإخوة ولا الأصدقاء ولا الجيران، إذا كانت محبة طبيعية لا شرعية، بل لا يدخل ذلك تحت التكليف أصلا، كما قدّمنا.
ولكن يؤاخذ المؤمن فيما لو أحبهم لدينهم ورضي أو صوّب عقيدتهم ومذهبهم، فهذه المحبة هي التي تنقض عقيدة التوحيد وتهدم عقيدة الولاء والبرآء.
وهذا في جميع الأديان، فلا اليهودي يبقى يهوديا ولا النصراني يبقى نصرانيا ولا المجوسي يبقى مجوسيا إن أحب دينا غير دينه ورضي به ونصره، لأنه والحالة هذه = تكون المسألة من باب اجتماع النقيضين.
وقد أثبت الله محبة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمّه أبي طالب المشرك الذي ناصره وآزره بقوله: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }، ولم يعاتبه ولم ينهه عن محبته له، وأما قول من قال ( أحببت هدايته ) فهذا من التأويل المردود، ولو سلمنا به ـ جدلا ـ لقلنا: أحب هدايته لأنه أحبّه حقيقة لقرابته ونصرته ومؤازرته، مع بغضه لدينه وعقيدته ومذهبه، وهذا ما جعله يحاول معه في إسلامه إلى آخر رمق من حياته كما في الصحيح.
فإن قال قائل: المحبة الطبيعية بالألفة والتعوّد قد تؤدي إلى محبة شرعية فتكون ذريعة لها؟
قلنا: هذا وارد، لكن لا يلزم من ذلك تحريم القدر المباح منها، فالعنب زرعه وبيعه مباح وقد يؤدي إلى استعماله في الخمر وهو حرام، والنظرة الأولى مباحة وقد تؤدي إلى ثانية وثالثة محرمة، وهذا مناط التكليف.
وأما قوله تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءه
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية، فالمحادة قدر زائد على مجرد معتقد الكافر ومذهبه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وقوله: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} عقيب قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله} دليل على أن المحادة مغالبة ومعاداة،حتى يكون أحد المحادين غالبا، وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم، فعلم أن المحاد ليس بمسالم، فلا يكون له أمان مع المحادة، وقد جرت سنة الله سبحانه أن الغلبة لرسله بالحجة والقهر، فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه، ومن لم يؤمر بالحرب أهلك عدوه، يوضِّحُه أن المحادة مشاقة؛ لأنها من الحد والفصل والبينونة، وكذلك المشاقة من الشق، وكذلك المعاداة من العدوة وهي الجانب، يكون أحد العدوين في شق وجانب وحد، وعدوه الآخر في غيرها، والمعنى في ذلك كله معنى المقاطعة والمفاصلة، وذلك لا يكون إلا مع انقطاع الحبل الذي بيننا وبين أهل العهد لا يكون مع اتصال الحبل أبدا. اهـ أحكام أهل الذمة (3/1394).
وهذا ما يجعلنا نفهم حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي في الصحيحين فهما صحيحا متفقا مع أصول أهل السنة والجمعة في الكفر والتكفير، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال: ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها ) . فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأجرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا فيه: " من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة " يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( يا حاطب ما هذا؟ ) . قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( لقد صدقكم ) . قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: ( إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) .
فهذا الحديث نص في أن النصرة للكفار على المؤمنين لو كانت محبة لدينهم ومعتقدهم لكانت ردة وخروجا عن الإسلام، ومتى لم تكن مصاحبة لذلك فهي منكر كبير وجرم عظيم، لكن لا تصل إلى حد الردة والكفر، والدليل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صدق حاطبا رضي الله عنه في دعواه: ( وما فعلت كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام )، وهذا ما يعني أن مناط الكفر بالحب والمودة فيما لو كانت رضا بالكفر ودين الكفرة.
فإن قال قائل: بل هي ردة، والدليل قول عمر رضي الله عنه: " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق" ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم ينكر على عمر قوله هذا؟
قلنا الجواب من أوجه:
أولا: أن كلمة المنافق ليس صريحة في النفاق الأكبر، فهي تطلق فيما دون ذلك من النفاق العملي.
ثانيا: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) هذا مما يمنع من أن يكون الفعل كفرا وردة كبرى، فإن الأعمال الصالحة مهما بلغت من العظمة والجلال فهي لا تقوى على أن تكون مكفرة لما يأتي بعدها من أعمال ولو كانت من قبيل الكفر والردة، فهذا لم يقل به أحد من الناس، والدليل قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
فالردة تحبط جميع العمل ولو كان عمل نبي موحى إليه، فكيف بمن دونه؟!
فالمؤاخذة في فعل حاطب جاءت من باب النصرة بالفعل، والمحبة تكون مؤثرة فيما لو كانت للدين والمعتقد، وأما المحبة الطبيعية فهي على الأصل من الإباحة، لأنها وببساطة من باب ترتب المسببات على أسبابها، وهذا ما لم تنه عنه الشريعة ولا يمكن؛ لأنه من فطرة الله التي فطر الناس عليها، بخلاف محبة الدين والمذهب والمعتقد، فهذا الذي يؤاخذ عليه المرء، وهذا الذي هو من نواقض الإسلام، لأنه لا يجامع الإسلام بل يناقضه.
وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
وكتب:
أبو وائل حسّان بن حسين آل شعبان
مرحلة الدكتوراه كلية الدعوة وأصول الدين قسم الكتاب والسنة جامعة أم القرى
مكة المكرمة عشية يوم الجمعة 25 الآخرة 1435 هـ
Hassene.cha@gmail.com